تلاميذالمؤسسات التعليميةبتطوان يستفيذون من ورشةالتشخيص المسرحي تأطيررضاالدغمومي
12 فيفري 2018غدا : منال عمارة منشطة مع جعفر القاسمي في فز تسمع العز
4 مارس 2018بقلم : يوسف الحمدان
ناقد مسرحي من البحرين
تعتبر مسرحية ( سمها ما شئت ) التونسية واحدة من أهم عروض المونودراما التي تسنى لي مشاهدتها في مهرجان الفجيرة الدولي للفنون في دورته الثانية ، حيث اتكأ مخرجها المبدع الشاب وليد دغنسي في رؤيته على ممكنات الجسد الهائلة والمركبة واشتعال وهجها في حيز فضاء يختزل عالما يعج ويضج بقضايا وأحداث اشتباكية يتعذر في كثير من الأحيان فك شيفرتها نظرا لتداخلاتها المعقدة وازمنتها المتفلتة التي تتقاطع فيها ماضويات سياسية واجتماعية مخاتلة ومخادعة ومريبة وراهنيات لا تمهد إلا لمستقبل مرتبك مضطرب يلغي ماقبله وما قبل قبله وكما لو أن هذه الأزمنة لم تؤسس إلا للفتك بمن يقودها نحو تخوم نقائضها واشتباكاتها الخلاقة لوعي إنساني يروم في جله حياة أكثر استنارة وجمالا ..
وتتجلى هذه الحالة الإشكالية المركبة في مختزلها الجسدي البليغ عبر أداء الفنانة أماني بلعج التي شغلت كل ممكناتها الجسدية الهائلة روحها المكتنزة بعذابات ومعاناة امرأة تداخلت وتشظت في حناياها عوالم الفدح والفجع إلى درجة لم يعد تحمل ثقلها ومحاولاتها السحلية القهرية ، فلم يكن أمامها أي خيار سوى التمرد والرفض والمواجهة وتعرية كل أنواع السلطات وتابوهاتها الخانقة من أجل أن تسلم هذه الروح من الموت الزاحف بشراسة نحو ابادتها كليا ..
وكان الجسد المستهدف هو عنصر المواجهة ضد شل حركته وموته ، وهو الذي يستعيد طاقته وحيويته كلما سعت سلطات القهر إلى تدميره واخماد اخر ما تبقى فيه من نفس احتضاري .
لذا كنا بصدد عرض بدأ قبل دخولنا القاعة لمشاهدته ، وما استرخاء الممثلة أماني المضطرب بجوار كرسي وحيد متعدد الدلالات على الخشبة ، إلا بمثابة استراحة محارب يحاول استنهاض طاقته الجسدية والروحية لمواجهة جديدة لهذه السلطات التي تتحين الفرصة للفتك به وسحله تماما .
إننا أمام ممثلة تتملك قدرة غير اعتيادية ، ليس في اختبار جسدها على استثمار ممكناته الدلالية المعبرة شبه الصامتة بل الاشبه بلوحة صامتة صاخبة في مستهل العرض ، إنما في اختبار تلقينا لمثل هكذا حالة ، حيث تلفت ابصارنا نحوها بوصفها لوحة تشكيلية حية تستدعي تأملها وقراءة تفاصيل خطوطها الحادة قبل أن تأخذنا معها في رحلة عذاباتها وهي تتجسد أمامنا على خشبة المسرح .
إنها قراءة إخراجية نابهة لحالة استحضارية لأحداث بدأت قبل العرض واثنائه وبعده ، كما أنها قراءة بحثية شاخصة في أزمنة متواترة قوامها الحدث قبل المكان او اي شيء آخر .
إنه اشتغال بحثي استقصائي على الطاقة السحرية الكامنة في روح هذا الجسد المتفلت المختزل والمحاور في جوانيته وبرانيته ومحدوسه ومخيلته لتفاصيل القهر والرفض في مجتمعاتنا العربية وليس في تونس فحسب .
إننا أمام ممثلة استثنائية في استيعابها لممكناتها الجسدية والروحية إلى درجة تكون فيها هي الآخر الذي ولدته قسوة الآخر الخارجي الند ، وتكون في مواجهة شرسة مع وباء هذا الآخر الذي يسكنها وترفضه ، بل ويكون كل ما يحيطها ويتزيى عنوة بها هو في لحظات التجسيد جزءا لا يتجزأ من أواخر اخرى تسكنها وتواجهها في الآن نفسه ، كما أن هذا الآخر يأخذ في هذا العرض ابعادا دلالية متعددة ومتوالدة عبر استقصاء ادائي لا يروم الالتياذ لمنطقة ساكنة بقدر ما يروم تحريك رمال هذه المنطقة كلما سكنت أو إشعال اوارها كلما خمدت جذوتها .
لقد تمكنت الفنانة الرائعة أماني بجهود مخرج العرض المبدع دغنسي أن تجعل من كل قطعة تشغل فضاء العرض ، كائنا ينتمي لها ويتحول الى كائنات تصبح شخصيات وأحداث أخرى تعج بها ذاتها وعالمها ، وبالتأكيد أن هذا الأداء المحترف لم يتشكل أو يتأسس بهذا المستوى الرفيع والخلاق لولا الدربة الجسدية الباحثة والمستمرة والمسئولة ، والتي تعي تماما كيف تتخلق الطاقة الفاعلة في جسد وروح ومخيلة المؤدي ، وكيف تصبح قادرة على محاورة الأزمنة والأحداث الصعبة والمركبة بنفس متمكن ومسترخ في الوقت نفسه .
لقد تمكنت فنانتنا اماني أن تقدم لنا بهذا الجسد الساحر والاستثنائي كل فنون الأداء ، الكيروغرافي والغناء الممسرح والفودفيل بشكل غروتسكي تصب كل معانيه ودلالاته في قلب القضايا التي تصدت لها أماني ..
وبالرغم من مباشرة النص أو الخطاب في أحيان كثيرة ، إلا أن المخرج دغنسي تمكن من تهشيمه وازاحة ثقليته عبر الأداء الجسدي المتمكن للممثلة أماني التي منحت هذا الخطاب صورا أخرى أكثر غنى من منطوقه اللفظي ، كما استطاعت أن تنقلنا في لحظات عبر مكيجتها الطبيعية لوجهها إلى أزمنة أخرى تعود بعدها إلى حالتها الزمنية الشابة .
ولشد ما استوقفتني لحظات وحالات الاسترخاء بل والاستراحة إن جازت تسميتها ، حيث تتحول فيها المؤدية أماني إلى كائن ينتمي إلى تيهه بحثا عن خلاصه وكما لو أن هذه اللحظات هي في حد ذاتها حدثا متصلا ومتعالقا دلاليا مع الذي سبقه ، وهي لحظات ذكية مدروسة ومخدومة من قبل المخرج بوعي مدرك أهمية قراءة الفراغ في العرض المسرحي وكيفية استثماره .
إنه فضاء لا يتجاوز حدود ممثلة وكرسي ولكنه عالم عشنا فيه وتعايشنا مع أحداث سنرى ما الذي سيصبح بعدها بعد عودة المرأة المثقلة باقسى همومها ومعاناتها وعذاباتها المجتمعية إلى الاسترخاء ثانية بعد مجاورتها لكرسيها ، وطنها الصغير وصخرة سيزيفها الذي بدأت معه ومنه أحداث مسرحيتها ..
تحية ومحبة للمخرج وليد دغنسي ولممثلته الاسرة الساحرة أماني بلعج ولكل صناع العرض .