عشر دقائق من التصفيق للفيلم “فلسطين “36
6 سبتمبر 2025
“صوت هند رجب” يحصد 6 جوائز في مهرجان البندقية السينمائي
6 سبتمبر 2025
بقلم: محمد نجيب هاني *
تمثل رواية “دوّار في الدوّار” (2022) للمؤرخ والكاتب التونسي الدكتور عبد الحميد الفهري ابن جزيرة قرقنة.. تجربة سردية لافتة في مسار الأدب التونسي المعاصر..
فهي ليست مجرد نص تخييلي، بل تعبير وجودي وصوت احتجاجي عن جيلٍ كامل سحقته آلة الواقع السياسي والاجتماعي، وجعلته يعيش في حالة دائمة من الاغتراب والإحباط. ومن ثمّ تندرج هذه الرواية ضمن النصوص التي توثّق للذاكرة الجماعية وتعيد مساءلة الحاضر بلغة تداخل فيها التاريخي بالمتخيل والحجاجي بالدرامي..
صدرت الرواية في 191 صفحة مقسمة على 22 فصلًا، عن دار محمد علي الحامي سنة 2022. وهي الطبعة الأولى من هذا العمل، وقد أهداه الفهري إلى أولئك الذين تغنّى بهم الشيخ إمام وخلّدهم الشاعر أحمد فؤاد نجم:
“عمال وفلاحين وطلبة… دقت ساعتنا وابتدينا”. هذا الإهداء يكشف منذ البداية عن الخلفية النضالية التي يتغذى منها النص، حيث يصبح السرد امتدادًا لروح المقاومة وفضاءً لتأمل معارك الحرية والكرامة.
المضامين: جيلٌ من ذهب ومعركة الحق في الحياة
تتمحور الرواية حول مأساة جيل جامعي كامل، وُصف بـ”جيل من ذهب”، لأنه قدّم الكثير للوطن دون أن يحصد سوى الخيبات. هؤلاء الشباب لم يكونوا فقط معطلين عن العمل، بل كما يصرح المؤلف: “معطلون عن الحياة برمتها”. لقد تحولت أحلامهم إلى كوابيس، فوجدوا أنفسهم أسرى البطالة والخذلان، ومع ذلك ظلوا يتمسكون بخيط الأمل، وبإرادة التغيير رغم الإحباط المتكرر.
يستعمل الفهري استعارة الدوّار/الدوّامة لتجسيد هذا الوضع: دوّامة من الانكسارات والصدمات تجرّ الريف والمدينة إلى نفس المصير. لكن هذه الدوامة ليست مجرد تيه، بل هي أيضًا حقل مقاومة، حيث يتشبث الشباب بالتآزر والتضامن، ليصنعوا رابطتهم الخاصة بالصمود في مواجهة الظلم الاجتماعي والحرمان السياسي.
البنية السردية واللغة
تتميز الرواية ببنية مركبة تجمع بين السرد الواقعي والرمزية المجازية. وقد وصف الأستاذ أحمد السماوي (كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس) العمل بأنه:
“يجتمع فيه ما هو من قبيل الواقع ومن قبيل الممكن الوقوع، وما هو من قبيل الحقيقة ومن قبيل المجاز، وما هو من قبيل الموجود ومن قبيل المنشود، وما هو من قبيل الفعلي ومن قبيل الاستيهام”
بهذا المعنى، تتحول الرواية إلى نص جدلي قائم على الحوار والاحتجاج أكثر من كونه مجرد وصف سردي. تتقاطع فيه حرارة المباشرة الناتجة عن الانفعال والحماس، مع إيحاءات تأويلية تمنح النص بعدًا فلسفيًا يتجاوز التوثيق المباشر للواقع. إنها نصية قائمة على التوتر بين إرادة الفعل ولا استطاعة الفعل، بين إقرار بالموجود وسعي حثيث نحو المنشود.
كما تتسم لغة الرواية بكثافة شعرية وحمولة فكرية في آن، فهي لغة مؤرخ عاشق للتاريخ وواعٍ بالذاكرة، لكنها أيضًا لغة قاص يبحث عن جماليات التخييل. هذا المزج يجعل الرواية تحمل بُعدًا فكريًا بقدر ما تحمل طابعًا أدبيًا تخييليًا.
القيمة الفكرية والجمالية
تكمن أهمية “دوّار في الدوّار” في كونها شهادة سردية على مأساة اجتماعية وسياسية عاشتها تونس في العقود الأخيرة، حيث اصطدمت طموحات جيل جامعي بواقع انسدّت فيه الأفق. لكن الرواية ليست مجرد انعكاس سلبي، بل هي أيضًا دعوة إلى وعي جديد، إلى فرز حقيقي بين من يزرع الأمل ومن يغذّي الخوف والظلام.
يقول الفهري:
“جيل من ذهب دفع كل الضرائب ومازال يدفع من أجل كسب معركة الحق في الحياة، تاركًا بصمات محفورة في الذاكرة ومونة في التاريخ بحروف لن يصيبها الصدأ”
هنا يتضح أن الرواية ليست سردًا للهزيمة، بل كتابة للمقاومة ولإرادة الحياة. إنها نص يصرّ على أن صبر المعطلين عن الحياة ليس استسلامًا، بل هو شكل من أشكال التمرد المستدام.
خاتمة؛
إن رواية “دوّار في الدوّار” تؤكد أن الدكتور عبد الحميد الفهري، بصفته مؤرخًا ومفكرًا قادر على أن يجعل من السرد الروائي وسيلة لإعادة كتابة التاريخ المعاصر بعيون المهمّشين.. فهي تجربة سردية تضاف إلى رصيد الرواية التونسية الحديثة، وتفتح أفقًا جديدًا لمزج الفكر بالتخييل والذاكرة بالتمرد. إنّها رواية تحتفي بالوعي الجماعي وتوثّق لمأساة جيل كامل، لكنها في الآن ذاته تنشد الأمل في “سيمفونية انتصار الإرادة”.
——-
* شاعر وناقد تونسي
__________________________
الهوامش والمراجع
1. أحمد السماوي، تقديم رواية “دوّار في الدوّار”، دار محمد علي الحامي، تونس 2022.
2. عبد الحميد الفهري، دوّار في الدوّار، دار محمد علي الحامي، الطبعة الأولى، 2022
3. حوار مع المؤلف، تصريحات منشورة في تقديم الرواية (الغلاف الخلفي)..
